كنيسة بلا جدران

الوطنية الحقيقية والوطنية المزيفة

لقد تسائلت بيني وبين نفسي كثيرًا؛ كيف أستطيع أن أكون مُحبًّا لوطني وشعبي، بشكل يُمجد الله ويخدم شعبي ووطني خدمة حقيقية بالروح القدس، وليست خدمة في الجسد التي لا تفيد شيئًا من جِهة ملكوت الله. هذا إذا أردتُ، كتِلميذ للمسيح، أن يكون لي دور مميز؛ يختلف عن أي شخص وطني آخر لا يخدم المسيح.

لقد وُلدت سنة ١٩٦٦، ونشأت في البلدة القديمة في القدس، ونشأت في بيت فيه لم اسمع طوال حياتي أبي يتكلم كلمة واحدة سيئة عن المسلمين أو الإسلام. تربيت معهم، وكان أحد أعز أصدقائي مسلمًا؛ أتذكر أني في فترة بداية الثمانينات، قضيت من الوقت في بيته، أكثر مما قضيت في بيتي الخاص؛ تلذذت بطعام والدته الطيب ودفء ضيافتهم ومحبتهم. أمَّا من جهة اليهود فكان أبي دائمًا يتكلم ضدهم، ويشرح لنا بالتفاصيل جميع أحداث النكبة والنكسة وجميع الفواجع التي عانى منها شعبنا الفلسطيني بسبب اليهود (وهو يتذكر جيدًا جميع هذه الأحداث، كإنسان مثقف جدًا، وطني، مَقْدِسي، من مواليد سنة ١٩١٤). وأنا نفسي اختبرت ورأيت هذا أيضًا من خلال جميع الأحداث التي حدثت منذ أنصاف السبعينات إلى هذا اليوم. وفي الانتفاضة الأولى، سنة ١٩٨٨، لقد حاول الجنود الإسرائيليين كسر عظم يدي اليُسرى، بحسب تعليمات الرئيس الراحل رابين آنذاك؛ دون أن أفعل أي شيئًا يستحق هذا. بعدها بأسابيع قليله ركلني بالأرجل خمس جنود إسرائيليين، وأنا طريح الأرض، أيضًا بلا أي سبب. لذلك كنت أتصارع بعد إيماني في أنصاف التسعينات بالمرارة من جهة اليهود. عرفت أن المرارة ليست من الله، وحاولت أن أتخلص منها لفترة سنوات، بلا جدوى. لا أعتقد أني كنت أكرههم، لكن كان في قلبي جراح كثيرة منهم، لم أستطع أن أتخلص منها أبدًا، بالرغم من أني صليت كثيرًا للتخلُّص منها. لكن في سنة ١٩٩٨، بينما كنت أتضرع إلى الله لكي يطهر قلبي، وبينما كنت أقرأ الموعظة على الجبل، وصلت إلى النص الذي يقول:
" لا يقدر العبد أن يخدم سيِّدين، لأنه إما أن يُبغض الواحد ويُحب الآخر أو يُلازم الأول ويحتقر الآخر.." متى 6: 24.
لقد شدني في هذا النص الربط الحتمي الذي قدمه المسيح، ما بين: يُحِبْ / يُبغض  و  يلازم /  يحتقر. صليت في هذا النص؛ وبعدها بدأ الروح القدس يفسر لي المفتاح الهام الذي عمل انقلاب في حياتي وقلبي.

لكل محبَّة يوجد وجهان: [ محبة / بُغضة ]  أو  [ ملازمة / احتقار ]، كما قال المسيح، في النص أعلاه. إنَّ المسيح تكلَّم هنا عن محبة الله ومحبَّة المال أو العالم. ولكن الغريب في الموضوع هو أنه وضع البغضة خلف المحبَّة وكأنهما وجهان لعُملة واحدة. فالوضع الصحِّي للمؤمن، بحسب النص، هو أن يحب الله؛ مما يجعله يُبغض الخطيَّة ويحتقر الأمور الدُنيَوية. فالمحبة الحقيقية الإلهية يُلازمها البغضة الصحية، وهي بغض الخطية والشر، وأن لا يفرح الإنسان بالاثم، بل يفرح بالحق ( ١ كورنثوس ١٣: ٦).
بعدها بدأ الرب يفهمني أنه عندما يحب المؤمن شعبه محبة إلهية حقيقية، ستلازمها البغضة الصِّحِيَّة، وهي بُغض الخطية الشر، وإرادة الخير للجميع وحتى الأعداء. أما عندما يُحِب المؤمن شعبه بمحبة ليست إلهية، بل جسدية، ستحمل المحبة الجسدية معها جانبًا آخر مُظلمًا لا يمجد الله؛ وهو بغضة واحتقار؛ ليس للخطية والشر، بل لشعب آخر.

تعريف المحبَّة الجسديَّة: هي المحبَّة الناتجة عن الجسد أو النفس وليست كنتيجة لمحبَّة الله الفائضة فينا ومن خلالنا بالروح القُدس.

    ولكن ما هو الخطأ بالتحديد في المحبَّة الجسدية ؟
لكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نجيب على سؤال آخر:

    ما هو الوجه الآخر للمحبَّة الجسدية ؟؟ أي وجه البغضة والاحتقار ؟؟

إنَّ هذه هي أساس المشكلة التي عانيت أنا منها، الوجه الآخر لمحبتي الوطنية الجسدية، كان بغضة واحتقار؛ ليس للشر والخطيئة بل للشعب اليهودي. وهذه المحبة المزيفة الجسدية ممكن أن تنعكس سلبًا على جميع جوانب حياتنا؛ وللشرح إدرجت بعض الأمثلة:

•    إن كانت محبَّتي لشعبي الفلسطيني جسديَّة فسأبغض وأحتقر الشعب اليهودي أو شعوب أخرى.
•    إن كانت محبتي للمسيحيين جسدية، فسيكون عندي عنصرية وكراهية ضد أناس من ديانات أخرى.
•    إن كانت محبَّتي لكنيستي جسديَّة، وليست كنتيجة لمحبة الله، فسأحتقر كنائس وطوائف أخرى.
•    إن كان الجسد هو السائد على محبتي لإمرأتي، فسأغار عليها غيرة مُرَّة وأبغض شخص معيَّن رأيته يتكلَّم معها بشكل عفوي.
•    إذا كانت محبتي لنفسي جسدية، فسأحتقر الآخرين وأعتقد أني أفضل منهم، وأضع نفسي في تنافس مستمر معهم، بالجسد.
•    إن كانت محبَّتي لأولادي جسديَّة، فسأحتقر أولاد آخرين، وسوف لا أحكم حكمًا عادلاً على أفعالهم عندما يُخطئون.
•    إن كانت محبتي لخدمتي التي وكَّلني عليها الله جسدية، فسأحتقر خدمات خدَّام آخرين؛ محاولاً إظهار عيوبها وفشلها.

إنَّ المحبَّة الجسديَّة هي من أخطر الضعفات التي نعاني منها كمؤمن في هذه البلاد، يهودًا وعربًا. والخطير فيها هو أنها غير ظاهرة، أي أن القليل جِدًّا من المؤمنين الذين يشعرون أنَّها شيء خطأ. لأنها لا تظهر بمظهر سيِّئ؛ والسبب في هذا هو، أن مُعظم المؤمنين لا ينتبهون إلى الوجه الآخر المظلم لمحبَّتهم الجسديَّة.

وفي اختباري الخاص، كثيرًا ما عرفت أن في قلبي بُغضة للشعب اليهودي؛ وحاولت أن أتوب عنها طالبًا من الله أن يزيلها، لكن بلا جدوى. ففي ذلك اليوم شعرت الروح القدس يقول لي:

" أنت يا إبني تحاول أن تتوب وتتخلص من الشيء الخطأ، فجذور مشكلتك هي ليست أنك تكره اليهود، لكن أنك تحب شعبك الفلسطيني في الجسد، وليس بالروح، ولا ترى الوجه الآخر المظلم لتلك المحبة، أنه بُغضة، ليست للخطية أو الشر، بل لليهود. سوف لا تستطيع أن تتخلص من هذه المرارة أبدًا، إلا إذا سمحت لي يا إبني بأن أحررك من محبتك الجسدية لشعبك، وأستبدلها بفيض محبتي الإلهية.”

عندها تُبت عن محبَّتي الجسدية لعشبي لأنها خطيَّة، ومن أعمال الجسد وليس الروح، ومحبَّة كهذه لا يمكن أن تُرضي الله، وبالطبع سوف لا يستخدمها الله لبناء شعبي؛ ولا لبناء ملكوته؛ كما يقول الوحي:

"٧  لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضع لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع. ٨  فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يُرضوا الله." رومية 8.

فالكتاب يُعَلِّم بوضوح أن الجسد، مصدر تلك المحبة الجسدية، غير خاضع لناموس الله؛ وهو أيضًا لا يمكن أن يخضع؛ وبالتالي لا يمكن أن يرضي الله، ولا يمكن أن يستخدمه الله.  فالوطنية المزيفة هي المنقادة بالمحبة الجسدية للشعب والوطن، وهي لا يمكن أن تمجد الله أبدًا مهما حاول صاحبها هذا. ربما تمجد الوطن المادي والأرض؛ أو القائد السياسي الفلاني؛ أو الحزب الفلاني؛ لكن بالتأكيد لا تمجد الله ولا تخدمه.
 
أما عندما يأتي الأخ المؤمن بانكسار لله، تائبًا وطالبًا منه أن يطهره من أي محبة جسدية لوطنه وشعبه؛ ويفيض في قلبه بمحبة إلهية جديدة، عندها يستطيع أن يكون وطنيًا حقيقيًا. يُحب شعبه محبة إلهية، دون أن يبغض أي شعب آخر طبعًا. ويصبح ابن للرب يعيش ليحقق مقاصد الله من نحو شعبه، كجزء لا يتجزأ من ملكوت المسيح، الذي يحمل قلبه جميع الألسنة الشعوب على حدٍّ سواء.

وهنا أوجِّه نداءً خاصًا لجميع المسيحيين العرب في هذه الأرض: إن لنا في  هذه الأرض دعوة مميزة وفريدة من الله، وهي أن نحمل في قلوبنا الشعب الُمسلم والشعب اليهودي أمام عرش النعمة، بدم يسوع المسيح ومحبة الله الآب. أصلِّي إلى الله بأن لا نفقد تلك الدعوة وأن نصحى قبل فوات الأوان.
إن استطعنا أن نُطَهِّر أنفسنا من المحبة الجسدية للشعب المسيحي أو العربي أو الفلسطيني أو الاسرائيلي..إلخ، سنصبح أواني نافعه للسيد، مُستعدة لكل عمل صالح، وخدَّام حقيقيِّن لله والشعب.

باسم ادرنلي

5709 مشاهدة