كنيسة بلا جدران

هل نسخ المسيح الناموس، أي أبطله؟

قال المسيح: "17 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18 فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ." لكن في نفس الوقت، يرى البعض أن الكثير من تعاليم المسيح، كانت مناقضة للناموس. مثل تعاليمه عن السبت، والأكل، والعبادة...إلخ؛

فكيف يقول المسيح لم آتي لأنقض الناموس، وفي نفس الوقت أبطل الكثير من وصايا الناموس؟

إن كلمة "لأنقض"؛ تعني حرفيًا لأهدم، لأبطل، لألغي. والمشكلة هي أنه في اللغة العربية، كلمة "لأنقض" تشبه كلمة "لأناقض"؛ والتي تجعل القارئ يشعر أن المسيح قال أنه لا يريد أن يناقض الناموس والأنبياء؛ ومن تعاليمه يجد أمور متناقضة. فلكي نفهم تفسيرها أكثر، يجب أن نفهم عبارة "بل لأكمل"؛ وقصده هو أنه لم ياتِ ليهدم الناموس والأنبياء، بل ليكمل رسالتهم. فعندما تبني بيت من طابق واحد، وبعدها تأتي لتكمل البيت ليكون فيلا من طابقين؛ بالتأكيد لا تقصد بكلمة "أكمل"، أنك ستهدم ما بني من قبل؛ بل أن تضيف عليه. ربما أيضًا ستحتاج أن تصنع تعديلات عليه؛ تحول غرف النوم في الطابق الأرضي إلى غرف ضيافة، وتصنع غرف النوم في الطابق العلوي مثلاً. تهدم حوائط في البيت، لتكبر غرفة الصالة والمطبخ؛ لكي يتحول من بيت ذات طابق واحد، إلى فيلا من طابقين ضعف المساحة.

إن فكرة تكميل وتطوير وصايا الله للإنسان، هي أمر طبيعي جدًا وليس أمر جديد في الكتاب المقدس. فبدأ الله مع آدم بثلاث وصايا إيجابية، ووصية سلبية (تكوين ١: ٢٨- ٢٩ و٢: ١٦-١٧). بعدها سقط آدم في الخطية وانفصل عن الله؛ فبدأت عملية إرجاع الله للبشر إليه. فأباد الله جميع البشر الخطاة في الطوفان، وأبقى نوح وعائلته فقط؛ بعدها أعطى نوح خمس وصايا؛ ومن ثم، بدأ الله في رفع المستوى الروحي والفكري والخلقي للإنسان؛ وتابع في شريعة موسى، التي تبدأ بالوصايا العشر؛ ويتبعها أكثر من ست مئة وصية. بعدها بدأ الله يعزز فكرة العلاقة الشخصية معه لكل شخص من شعب الرب دون وسطاء، بواسطة سفر المزامير والنشيد. بعدها بدأ الله يعطي تعليمًا للإنسان بواسطة سفر الأمثال، ليرفع مستواه الخلقي والسلوكي؛ من حفظ الشريعة، للنمو في حكمة الله. وهذا يحثه على ترك السلوك الجيد، ليسعى لسلوك أفضل؛ عن طريق النمو في الحكمة، وهي التطبيق العملي لمعرفة الله. لكن في نفس الوقت، قادت رسالة الناموس والأنبياء الإنسان لحالة يدرك من خلالها أنه لا يقدر أن يرضي الله بواسطة الشريعة، وبأي عمل ممكن أن يعمله. لذلك ينتهي العهد القديم بصرخة فشل وإحباط وأسئلة معلقة:

ما هو الحل للطبيعة الفاسدة للإنسان؟ وكيف ممكن أن نرضي الله؟

فيأتي العهد الجديد بالحل؛ وهو احتياج الإنسان إلى مخلص، وليس فقط إلى شريعة. فبالشريعة معرفة الخطية، لكن لم تعط الشريعة حلاً جذريًا لها. لم يكن الهدف من الناموس والأنبياء أن تقود الإنسان للافتخار، كما حدث مع الفريسيين؛ بل هدفه أن يقود الإنسان للانكسار والشعور بالضعف والحاجة الماسة لقوة ونعمة الله المخلصة.
يعترض الكثير من النقاد المسلمون، عن تلك التغييرات التي نراها في العهد القديم، ويتسائلون:

لماذا يرفض المسيحيون فكرة الناسخ والمنسوخ في القرآن (وهي فكرة أن الله ينزل آية، وبعدها يبطلها بآية أخرى)؛ ويروا في الكتاب المقدس نفس الشيء؛ وصايا تعطى للإنسان، وبعد فترة تنسخ بأخرى، أو تبطل بأخرى!!

يجب أن نفهم هنا أننا نتعامل مع قضية مختلفة تمامًا عن الناسخ والمنسوخ القرآني، وذلك من ثلاثة جوانب:

أولا: جميع الوصايا في العهد القديم لم تُنقض أبدًا؛ لكن كان الله دائمًا يضيف عليها وصايا أكثر وأعمق.

ثانيًا: نحن لا نتكلم هنا عن وصايا اعطيت لإنسان، وبعد وقت قصير (من يوم إلى أقل من ٢٣ عام) يبطلها الله بوصية أخرى. نتكلم هنا على تباعد زمني مقداره أكثر من ألف عام. فبين آدم ونوح هناك حوالي ١١٠٠ عام، وبين نوح وموسى حولي ١٤٠٠ عام، وبين موسى والمسيح، حولي ١٤٤٠ عام؛ فالله لم ولن يغير رأيه بين ليلة وضحاها كما يظن البعض.

ثالثًا: إن الإضافات التي أجراها الله من جهة وصاياه على مر العصور، دائمًا كانت تعكس نفس صفات الله ومبادئه؛ فلا تغيير في مبادئه وصفاته أبدًا. فسامح لا تصبح انتقم؛ وسالم لا تتحول إلى قاتل؛ بل مبادئ الله من: التسامح، الخلاص، المحبة، الغفران، العدل، الرحمة، النعمة... ثابته ولا تتغير. فلا يمكن أن يغير الله مبادئه أو صفاته أبدًا، مع تغيير أحكامه؛ لكن ينتظر نضوج الإنسان مئاة السنين؛ ويتجاوب مع نضوجه. فالله لا يتغير في طبيعته وفكره أبدًا؛ بل الإنسان هو الذي يتغير؛ وبناءً عليه، تعاملات الله مع الإنسان تتغير. فعندما تعطي ابنك الطفل وصية، وتقول له: "إذا أنهيت أكلك، سأعطيك دينار، وإذا لم تحترم أختك، سأعاقبك". فعندما يكبر ابنك ويصبح عمره ٣٠ عام، سوف لا تقل له: "إذا أنهيت أكلك، سأعطيك دينار!!"؛ وكونك غيرت وصاياك له بسبب نضوجه، هذا لا يعني أنك تغيرت؛ ولا يعني أن محبتك له أو مبادئك تغيرت؛ بل يعني أن ابنك تغير؛ وبناءً عليه، تغيرت طريقة تعاملك معه، تجاوبًا مع نضوجه. إذًا المسيح قال أنه لم يأت ليهدم الناموس والأنبياء، بل ليكمله؛ يكمله تعني أنه سيحدث تعديلات عليه ويطوره. إن جميع التعديل والتطوير الذي صنعه الله من جهة وصاياه للإنسان على مر العصور، لا تعني أن الله يتغير؛ بل تعني أن الإنسان يتغير وينضج؛ لذلك يغير الله تعاملاته مع الإنسان، بناء على نضوجه وتجاوبه؛ والعالم المتغير الذي يعيش فيه. لكن تغيير وصايا الله للإنسان من دهر لآخر، لا يعني أن الله يتغير؛ إن الله وصفاته ومبادئه لا تتغير أبدًا مهما حدث؛ لأنه كامل: "١٩ لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي؟" العدد ٢٣. فالله "١٧... لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ" يعقوب ١. المقالة القادمة ستجيب على سؤال: كيف تمم المسيح ناموس موسى؟

باسم أدرنلي

8236 مشاهدة