كنيسة بلا جدران

الحكمة السماوية والحكمة الأرضية

متى 15: 21 " ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إلَى نَوَاحِي صُورَ وصَيْدَاءَ. 22 وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ: «ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً». 23 فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» 24 فَأَجَابَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». 25 فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!» 26 فَأجَابَ: «لَيْسَ حَسَناً أَنْ  خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». 27 فَقَالَتْ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا». 28 حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ."

كثير من الذين يقرأون هذه الفقرة يعتقدون أن المسيح شبه الأمم بالكلاب، لكن هذا غير صحيح.
دعونا ندرس تلك الفقرة ونستخرج منها المعاني الروحية التي يريد أن يعلمنا إيَّاها الرب.

دعونا نُعَرِّف بعض التشابيه التي وردت في لغة المثل التي استخدمها المسيح.
خبز البنين: بحسب مفهوم كالفِن أنه يرمز لجميع البركات المرتبطة في وجود الإنسان ضمن عائلة الله، أو شعب الرب.
البنين: يرمزون للبقية المؤمنة من نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأمم الذين دخلوا معهم تحت عهد إله إبراهيم (لكن دخولهم كان بشكل قليل ومحدود، مثل راعوث، أوريا الحِثِّي وغيرهم).
الكلاب: الكلمة المستخدمة هنا "كوناريون" هي الكلاب الصغيرة الموجودة في داخل البيت، وترمز إلى إتلاف البركات ورميها ليس في موقعها أي ليس لهدف يؤدي إلى خلاص النفس ومجد الرب.

لقد أعد الله خطة للأمم لكي يتناولوا من تلك البركات السماوية، وهي من خلال الصليب والخلاص. وفعلاً بعد الصليب أصبح للأمم الإمكانية للأخذ من تلك البركات تمامًا مثل اليهود الذين آمنوا، فيقول الكتاب عن المسيح:
" 14 لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً (أي اليهود والأمم)، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ 15 أَيِ الْعَدَاوَةَ. ... لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً، 16 وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ." أفسس 2.

لذلك بعدها يقول عن الأمم:
" 19 فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً (أي مقطوعين عن خبز البنين)، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ."

إن المسيح أراد أن يبرز للمرأة الكنعانية بأن الخطة الإلهية للأمم لكي ينالوا البركات الروحية كأولاد هي من خلال الصليب والخلاص الذي سيتم بعد أن ينهي المسيح خدمته مع اليهود فقط (عدد 24). وبعد الصليب والقيامة ونزول الروح القدس، سيصبح للأمم الذين يؤمنون بالمسيح نصيب في تلك المائدة والخبز كأولاد البيت.

بكلمات أخرى، أذا أعطي الشفاء للأمم بدون إن يكون لهم الإمكانية للخلاص، سيكون كالذي يرمي خبز البنين على الأرض، فيكون غير صالح أن يؤكل من أهل البيت، ولا أن يرمى مع النفايات، فهذا حرام لأن الخبز كان يُعتبر مقدس (لا زالت تلك العادة سائدة في مجتمعنا الفلسطيني، حيث أنه ممكن رمي كافة أنواع الأطعمة إلاَّ الخبز فإمَّا أن يوضع للطيور أو للحيوانات). وهذا يقودنا للاحتمال الثالث وهو أن يصبح الخبز مأكلاً للكلاب، وهذا الذي قصده يسوع. إن المعجزات أعدت من الله لكي يؤمن الناس بالمسيح لنيل الخلاص وإذا كان هذا غير ممكن، فيكون كأن المعجزة طرحت على الأرض. المسيح أراد أن يؤكد أنه يوجد خطة للآب بأن يكون للأمم نصيب في تلك البركات، وذلك عن طريق الجلوس على المائدة كبنين، بعد أن يتم الخلاص، وليس أن يلقى الخبز لهم على الأرض (وهم مقطوعين من المائدة، أي من الخلاص)؛ كأنهم كلاب، فهذا لا يسر ويمجد الله الذي خلقهم على صورته ومثاله. وجدير بالذكر أيضًا أن نزول المسيح إلى صور وصيداء على الأرجح كان لأجل تلك المرأة لأن الكتاب لم يذكر أي شيء آخر قاله أو فعله يسوع هناك.

لقد برزت عِدة صفات رائعة لتلك المرأة، أبرزها صفة الانكسار.

كان عندها انكسار تام وفهم تام للمسيح؛ وأدركت أنها ليست من البنين بل من الأمم، ولكن بناء على هذا الإدراك تضرعت للمسيح بأن يشفي ابنتها قائلة (طرح عدد 27 بلغتي الخاصة):
" مع أني لست من الأبناء، وحتى لو اعتبرتُ نفسي من الكلاب الذين في البيت، فإن الكلاب ممكن أن تأكل الفتات النازل من مائدة أسيادها، مثل نعمان السرياني والمرأة التي من مدينتي، التي أعالها إيليا النبي في القديم (لوقا 4: 25-27)".
يا له من انكسار تام لأبعد الحدود التي ممكن أن نتخيلها، لكنه قادها إلى كل الإكرام في عيون الله. إن الانكسار هو من أهم الصفات المباركة في عيون الله حيث قال:
" قَريبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ." مزمور 34: 18. وأيضًا قال: "ذبائح الله هي روحٌ مُنكسِرة..." مزمور 51: 17.

فوائد الانكسار:

المثابرة: لقد تجاهل المسيح صراخ المرأة عمدًا ليبرز لنا مثابرتها لأنها استمرت بالصياح وراء التلاميذ (عدد 23). إن مثابرتها كانت كنتيجة لانكسارها وعدم اهتمامها بكرامتها وماذا سيقول الناس عنها.
معرفة وإدراك: نرى هنا أن للمرأة معرفة عن شخص المسيح لأنها قالت له: ".. ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ.."، لقد عرفت أنه المسيح، وعرفت من هو داود وكيف أن المسيح سيأتي من نسل داود الملك حسب الجسد. إن انكسارنا يقودُنا إلى التعلم والمعرفة.

إيمان: كان عندها إيمان أن المسيح قادر على شفاء إبنتها دون أن ترى أية مُعجزة، على عكس الكثير من اليهود الذين بالرغم من رؤية الكثير من المعجزات، لم يؤمنوا. كان إيمانها مقترن بالإدراك الروحي الصحيح، هذا مهم جدًا في الحياة الروحية. مثل قائد المئة الذي فهم أن المسيح له سلطان كإنسان لأنه تحت سلطان الآب (متى 8: 9)؛ لذلك أعجب يسوع جدًا بإيمانه. إن عدم التنازل والانكسار هو من أهم الأسباب لعدم إيمان الناس. حيث يأتي الإيمان كنتيجة لانسحاق الإنسان وطرح فهمه وحكمته خارجًا، وتَشَرُّبْ وقبول كلام الروح القدس الذي يدق على باب قلبه.

خضوع تام لسلطان الله: وذلك في اختياره لشعب إسرائيل، حيث دعت المرأة هذا الشعب "أربابها". إننا كشعب فلسطيني في أمس الحاجة إلى الانكسار، حيث أننا من النادر أن نسمع أي إنسان فلسطيني يتكلم على أي قائد فلسطيني أو عربي بشكل إيجابي. فكلامنا ممتلئ بالرفض التام للقادة الذين أقامهم الله، في الدولة، في العمل، في الكنيسة، وفي كافة المجالات. إن رفضنا للقيادات التي يقيمها الله في حياتنا يأتي من الكبرياء وعدم الانكسار.

دعونا كمؤمنين نتزين في تلك الصفة الرائعة وننضم إلى عمالقة الإيمان في الكتاب الذين أدركوا أنهم مساكين بالروح من أمثال هذه المرأة، وأبو المؤمنين إبراهيم حينما اعتبر نفسه أمام الله ترابًا ورماد (تكوين 18: 27)، وأيضًا الملك داود حينما اعتبر نفسه دودةٌ لا إنسان (مزمور 22: 6)، وأيضًا آساف اعتبر نفسه كبهيمة لا يفهم شيء أمام الله (مزمور 73: 22)، والملك نبوخذنصر أدرك أن كل الأمم كلا شيء قدام الله (دانيال 4: 35)، ويوحنا المعمدان الذي لم يعتبر نفسه أهلا ليحمل حذاء المسيح، أي أقل من عبد (متى 3: 11).

باسم أدنلي

7527 مشاهدة