كنيسة بلا جدران

التحليل والتحريم في المسيحية

إن التحليل والتحريم في المسيحية لا يتبع قوائم تشمل العشرات الألوف من الفتاوى التي تضيِّع أي أمة وتضلها، وتكون ناتجة عن دين بشري محض مبتدع من البشر وتشريعاتهم!!! وهي مشكلة واجهها المسيح مع رجال الدين اليهود على زمنه، وهي قائمة في كل الأزمنة والديانات وعبر كل العصور:
"6 فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ! 7 يَا مُرَاؤُونَ! حَسَنًا تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: 8 يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. 9 وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ»." متى 15.
فمن جهة التحليل والتحريم، هو يندرج فقط تحت أمور حرمها الله واضحة مذكورة في آيات واضحة تنهانا عن رذائل معينة، مثل: كالزنى، النميمة، الكذب، الكراهية...إلخ. أي أشياء نحتاج أن نتركها ونمتنع عنها لأنها خطايا وآثام.
وهناك أيضًا آيات تحثنا على فضائل إلهية يجب أن نلتزم بها، أي نعيشها. كالآيات التي تأمرنا بأن نسامح الآخرين مثلا (متى 6: 12 و14-15  ومتى 18: 35). أن نحب الجميع، حتى الأعداء (متى 5: 44). وهناك حتى حث من الوحي لي لتعليمي ما هو المنهاج الفكري الذي يجب أن أتحلى به كمؤمن بالمسيح، فيقول:
"8 أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا" فيليبي 4. (لم ولن توجد ديانة عبر العصور تعلمك كيف تفكر، مجدًا للرب)

أما في هذا المقال سنتكلم عن الأمور التي لم يتكلم عنها الكتاب المقدس بشكل واضح، ماذا أفعل بخصوصها؟ كيف أعرف فيما إذا كانت الممارسة مُلزمة، مُستَحبة، مَقبولة، مَكروهة، أم مُحرَّمة. فالتحريم في المسيحية مبني على مبادئ خلقية ممكن تطبيقها على كل شيء في حياتي، وإعرف مشيئة الله بخصوصها. لذلك المبادئ التي علمها العهد الجديد بسيطة وصالحة لكل زمان ومكان، وهي كما يلي:

أولاً، أن تسعى نحو التصرف الأفضل:
"12 «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ.. " 1 كورنثوس 6. 
كلمة "توافق"، وفي اليونانية "سومفيريه συμφέρει"، تعني: ذات فائدة، أفضل؛ كما وردت في إنجيل متى 5: 29 "لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ" أي أفضل لك. وهي تعلمنا أننا قبل أن نتصرف ما نتصرف، نسأل أنفسنا سؤال: هل هذا أفضل تصرف ممكن؟ أم هناك تصرف أفضل منه؟ وهذا يقودنا لأهم نظام نقلنا إليه وحي العهد الجديد، بعدما حررنا من نظام الديانات، الحلال والحرام، إلى نظام رمي التصرف الصالح جانبًا، والتمسكل بالتصرف الأفضل منه! حيث يقول الوحي:
"17 فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ" يعقوب 4
وهي آية تعلي المستوى الخلقي من المحدود لغير المحدود؛ إذا عملت شيء حسن مثلا، وكان بإمكانك أن تقدم شيء أفضل منه، فهذه خطية! لأنك يجب أن تقدم الأفضل دائمًا!! فهو نظام رباني وصل لقمة الجبل، حيث يلزمك بأن تسعى نحو الأفضل دائمًا:
"21 امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ" 1 تسالونيكي 5
أي امتحن قلبك، أفكارك وتصرفاتك كل الوقت، وتمسك دائمًا بالأفضل بالمقارنة بما عندك من فكر، نهج، وتصرفات.

ثانيًا، أن لا تتسلط علي الممارسة التي أمارسها:
نجد الوحي يحثنا أن ننتبه لأمور وممارسات ممكن تتسلط علينا، وتشمل أيضًا أنواع إدمانات معينة، فيقول:
"12 ..«كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ" 1 كورنثوس 6.
فالمسيح دعانا للحرية من أي تسلط للعالم والدنيويات علينا:
"13 فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ.." غلاطية 5.
أي لا تجعلوا من حرية المسيح، فرصة لشهوات الجسد والدنيى، التي ممكن أن تتسلط علينا.
لكن ماذا لو تسلطت علينا، أو تعلقنا بممارسات تشمل أشياء صالحة، مثل القراءة، الثقافة، الرياضة...إلخ؟ هذا سيقودنا للنقطة القادمة.

ثالثًا، هل الممارسة تبنيني وتبني الآخرين؟
"23 .. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي" 1 كورنثوس 10.
كلمة "تبني" المستخدمة هنا في اليوانينة، هي "أوكوذوميْ  οἰκοδομεῖ"، وتعني كما ترجمت تمامًا، البناء؛ فاستخدمت في متى 7: 24، لبناء بيت فعلا. وهي تعلمني أن أطرح سؤال: هل تؤول الممارسة التي أنا أفعلها إلى بنائي، روحيًا، نفسيًا، وبدنيًا؟ هل تبني أسرتي، جماعة المؤمنين، ومجتمعي؟ لذلك ليس كل ممارسة متسلطة علي ضارة؛ مثل التعلق بقراءة الكتب، عمل الخير، الرياضية، المأكولات المفيدة للجسم ...إلخ، حيث جميع هذه تبني الإنسان والوسط الذي يعيش به، وتقربه من الله. مثلا المجتمعات الإسلامية تقول لك الخمر حرام لأنها محرمة عندهم. لكن بحسب هاذين المبدأين السابقين، ممكن أن يدمن شخص على الكولا، وهي ضارة للجسم، فتصبح مكروهة بالنسبة لله، وكذلك يجب أن يكون الإفراط منها مرفوض بالنسبة لنا. ممكن مأكولات سكرية ضارة لشخص عنده سكري، فيجب أن يمتنع عنها ويتناولها بقلة ويكسر إدمانها وتسلطها عليه. لذلك هذا هو السؤال الثالث الذي يجب أن نسأله لأنفسنا؛ هل يؤول الشيء الذي أتناوله أو أفعله لبنائي، وبناء الناس الذين حولي؟

رابعًا، أن تعكس الممارسة محبة الله للآخرين من خلالي:
نسمي هذه النقطة أيضًا ناموس المحبة، وهي تُخرج الإنسان من ذاته، وتجعله يفكر في مصلحة الآخرين فوق ذاته:
"15 فَإِنْ كَانَ أَخُوكَ بِسَبَبِ طَعَامِكَ يُحْزَنُ، فَلَسْتَ تَسْلُكُ بَعْدُ حَسَبَ الْمَحَبَّةِ. لاَ تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذلِكَ الَّذِي مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِهِ... 21  حَسَنٌ أَنْ لاَ تَأْكُلَ لَحْمًا وَلاَ تَشْرَبَ خَمْرًا وَلاَ شَيْئًا يَصْطَدِمُ بِهِ أَخُوكَ أَوْ يَعْثُرُ أَوْ يَضْعُفُ." رومية 14.
الآية تطرح شيء واضح، هو أنه حتى لو كان الذي تريد أن تأكله غير محرم عليك؛ لكن إذا الشخص الذي أمامك يتضايق مما تأكل، فامتنع عنه؛ لأنك تهتم بمشاعره ولملكوت الله وليس لذتك. وهذه من أهم صفات الديانات البشرية والوثنية؛ تعلم الإنسان التابع لها أن ينحصر حول حقوقه الشرعية، وليس لمشاعر الآخرين ومصالحهم!! فيقول لك: "الشرع حلل لي هذا... هذا حقي الشرعي"، ولا يهمه إذا كان به يدوس على رؤوس الآخرين. فهذه الديانات تخلف مجتمع أناني، كلٌّ فيه مُنحصر في مصلحته وحقوقه "الشرعية"، وليس في مصلحة وحقوق الآخرين! أما الوحي الإلهي، فيعلم المؤمن بالمسيح أن ينكر نفسه، فيتنازل عن حقه الإلهي، ليبارك به الآخرين؛ إن هذه لمن أعظم الفضائل المسيحية. انظر لهذه الآية التي تحمل قمة جمال النفس والروح الإلهية لنهج الله الحقيقي:
"13 لِذلِكَ إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْمًا إِلَى الأَبَدِ، لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي" 1 كورنثوس 8
فحقي الشرعي، هو أنه ليس هناك أكل يقدر أن ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الإنسان من رذائل فقط، كما علم المسيح (متى 15: 17-20). لكن مع أن الطعام يحل لي، أختار أن أمتنع عنه تمامًا، لكي لا أعثر أخي!! هل هناك في الوجود تعاليم بهذا المستوى الخُلقي والرباني!؟

خامسًا، أن تكون الممارسة بإيمان متيقن:
وهنا الوحي ينهى عن كل ممارسة فيها تشك فيما إذا هي محرمة أو غير مقبولة أم لا. إذا كنت تشك فيما إذا كانت محللة أو محرمة، امتنع عنها. لأن الارتياب ليس من الإيمان:
"23 وَأَمَّا الَّذِي يَرْتَابُ فَإِنْ أَكَلَ يُدَانُ، لأَنَّ ذلِكَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ فَهُوَ خَطِيَّةٌ" رومية 14
لذلك الوحي يحث أي شخص عنده شك في أي ممارسة، أن يمتنع عنها:
"14 إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي الرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِسًا بِذَاتِهِ، إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئًا نَجِسًا، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ" رومية 14.
وهنا يعطي الحرية لكل شخص أن يمتنع عما يظن أنه نجس، وحتى لو لم يكن نجسًا. وهنا عظمة المسيحية المتفاعلة مع حالة الإنسان ووضعه ومجتمعه. فالكثير من المسلمين السابقين الذي يتبعون المسيح، يستمرون في الامتناع عن أكل الخنزير والخمر مثلا، وهذا مُستحب بحسب الآية السابقة "مَنْ يَحْسِبُ شَيْئًا نَجِسًا، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ". ويطرح السبب في هذا، بنفس الفصل بقوله: 
"17 لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ" رومية 14. 
فالمؤمن التابع للمسيح الذي دعاه أن ينكر نفسه، يجب أن يكون مستعدًا لأن يتنازل عن حقوقه ورغباته، لمجد ملكوت الله.

إذا بخصوص كل الممارسات غير الواضحة التي لم يتكلم عنها الكتاب بآيات واضحة، ممكن لأي شخص أن يستخدم الخمس مبادئ السابقة ليحكم لنفسه، هل الممارسة مقبوله، مكروهة، محرمة، أم مستحبة. مبادئ صالحة لكل زمان ومكان ولكل الممارسات غير الواضحة. فالوحي الحقيقي مفروض أن يكون واضح ومفهوم لدى أبسط الناس. 
باسم أدرنلي - القدس 18/ 04/ 2023

4172 مشاهدة